مداخلة الكاردينال كوفاكود خلال أعمال القمة الدولية الثانية للقادة الدينيين المنعقدة في ماليزيا
استهل المسؤول الفاتيكاني كلمته معربا عن سروره للمشاركة في هذا اللقاء الهام وموجهاً كلمة شكر إلى قسم الأوقاف الدينية في ماليزيا ولرابطة العالم الإسلامي، على دعوتهما لانعقاد هذه القمة. ثم قال إن موضوع اللقاء يكتسب أهمية كبرى في السياق الذي نعيشه في عالم اليوم، لافتا إلى أن القادة الدينيين مدعوون إلى رفع الصوت في وجه العنف والظلم والتمييز، والتصدي للأسباب الكامنة وراء الصراعات، والالتزام في الوقت نفسه في حماية البيت المشترك. بعدها أكد نيافته أنه يتعين على القادة الدينيين، في المقام الأول، أن يكونوا صوت السلام لا العنف، كما ينبغي أن يعملوا على بناء الجسور الكفيلة بتخطي الانقسامات، وعلى تضميد الجراح بشكل يعزز المصالحة والرجاء. تابع الكاردينال كوفاكود كلمته مشيرا إلى أن الديانات تُتهم غالباً بكونها أساساً للصراعات، وقال إن هذا الادعاء ليس صحيحاً، لأن جذور الصراعات هي الفقر وانعدام المساواة والاستغلال السياسي والإقصاء، فضلا عن الجراحات العميقة التي يولدها الظلم. وأضاف أن الدين يُستغل غالباً من قبل أشخاص بهدف تغذية الانقسامات أو تبرير العدوان على الآخرين. والمشكلة تكمن هنا في الاستخدام السيء للقوة، وفي الشرخ الاجتماعي، وفي قلب الانسان عندما يبتعد على العدالة والرأفة والبحث عن الحقيقة. هذا ثم لفت المسؤول الفاتيكان إلى وجود بعض القادة الدينيين الذين ساهموا – بشكل مباشر أو غير مباشر – في نشوب الصراعات، وقد حصل ذلك أحياناً بالتواطؤ مع القوى السياسية، وهذا ما ظهر جلياً من خلال التطرف الديني، والحركات السياسية التي تحمل طابعاً عرقياً ودينيا. وقال إنه لا بد أن نؤكد أن الدين بحد ذاته ليس مسبباً للعنف لكن ينبغي في الوقت نفسه أن نُقر بوجود أفراد أو فئات ضمن جماعاتنا زرعوا الانقسامات، مارسوا العنف وسببوا الدمار، وهم يقومون بتأويل الكتب المقدسة والتقليد والتاريخ من أجل تبرير العنف، وممارسة التمييز وحرمان الآخرين من حقوقهم المشروعة، بما في ذلك الحرية الدينية. من هذا المنطلق لا بد أن يذكّر القادة الدينيون جماعاتهم بأن الإيمان لا ينبغي أن يكون سلاحاً، بل يجب أن يكون قوة شافية. وهو موضوع تحدث عنه البابا الراحل فرنسيس في رسالته إلى مدينة روما والعالم يوم عيد الفصح الماضي متوجهاً إلى القادة السياسيين وحاثاً إياهم على عدم الاستسلام لمنطق الخوف، بل استخدام الموارد المتاحة لمساعدة المحتاجين ومكافحة الجوع وتعزيز مبادرات لصالح التنمية. وقال البابا برغوليو آنذاك إن هذه هي الأسلحة التي تبني المستقبل، عوضا عن تلك التي تحصد الأرواح. ولفت الكاردينال كوفاكود إلى وجود مبادرات عدة تصب في هذا الاتجاه، بينها القمة الدولية للقادة الدينيين، ووثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والتعايش المشترك، فضلا عن إعلان مكة ووثيقة مكة وكلها تشكل خطوات هامة باتجاه السلام والتناغم في عالم اليوم. تابع نيافته مداخلته مشيرا إلى أن عالمنا اليوم جريح نتيجة اللامبالاة والحقد والتطرف، لذا من الأهمية بمكان أن يفتح القادة الدينيون باب التلاقي وأن يُلهموا الآخرين بعيش الاحترام من خلال التقاليد. وذكّر بأنه منذ صدور الإعلان المجمعي "في عصرنا"، بشأن علاقات الكنيسة الكاثوليكية مع الديانات غير المسيحية، ما فتئ البابوات، من بولس السادس إلى لاون الرابع عشر، يذهبون للتلاقي مع الديانات الأخرى، من المسلمين إلى البوذيين، مروراً باليهود والهندوس والسيخ وأتباع الديانات التقليدية، ساعين إلى بناء الجسور وهدم الجدران. وشاء الكاردينال كوفاكود أن يذكّر المشاركين في القمة بالرسالة العامة للبابا فرنسيس Fratelli Tutti التي أكد فيها الحبر الأعظم الراحل أن كل واحد منا مدعو لأن يكون صانعاً للسلام، لأن يوحّد لا لأن يفرق، وإلى إخماد نار الحقد وفتح دروب للحوار عوضاً عن بناء جدران جديدة. كما شدد برغوليو، في مناسبة أخرى، على أن البشر لا يستطيعون أن يبنوا جسوراً فيما بينهم إذا ما نسوا الله، كما لا يستطيعون أن يقيموا علاقة حقيقية مع الله إذا ما تجاهلوا الآخرين. أما البابا الحالي لاون الربع عشر وخلال لقائه مع ممثلين عن باقي الكنائس والأديان، في التاسع عشر من أيار مايو الماضي، فلفت إلى أنه في عالمنا المجروح بسبب العنف والصراعات، لا بد أن تُقدم كل جماعة دينية إسهامها، إسهام الحكمة والرأفة والالتزام لصالح الخير العام لجميع الأشخاص وحماية البيت المشترك. وأكد المسؤول الفاتيكاني أنه ينبغي علينا اليوم أن نتسلح بالشجاعة اللازمة من أجل هدم الجدران القديمة، لكن هذه الشجاعة لوحدها ليست كافية، إذ لا بد أن نبني جسوراً جديدة، وأن نُرمم تلك التي دُمرت كي نخلق مستقبلاً من السلام والتضامن. وهذه هي درب الحوار بين الأديان. في ختام مداخلته ذكّر عميد الدائرة الفاتيكانية للحوار بين الأديان بأن الصراعات تترك ندوباً عميقة، لاسيما لدى النساء والأطفال والفقراء، كما البيئة أيضا. لذا يتعين على القادة الدينيين أن يرفعوا صوتهم للدفاع عن ضحايا الصراعات وليتحدثوا عنهم بإنصاف وشجاعة. وقال إنه علينا أن نضمد هذه الجراح لأننا سنُسأل يوم الحساب عما إذا كنّا قد مارسنا الرحمة والرأفة مع الآخرين. وعملية الشفاء تتم من خلال المغفرة وتطبيق العدالة وعدم طمس الحقائق. وذكّر الكاردينال كوفاكود بأن البابا بندكتس السادس عشر قال مرة إن الصحارى التي نراها في العالم ليس إلا انعكاساً للصحارى الشاسعة الموجودة في قلب البشر. وأكد المسؤول الفاتيكاني أن السلام ليس غياباً للحرب وحسب، لأن السلام الحقيقي هو العدالة والاشتمال والاعتناء بالبيت المشترك، لافتا إلى أننا مترابطون مع بعضنا البعض ولا يوجد دين أو بلد قادر على مواجهة هذه التحديات بمفرده، وعلى القادة الدينيين أن يدعموا الحلول السلمية للصراعات وهكذا يمكنهم أن يبنوا معاً عالماً يليق بإنسانيتنا المشتركة. |