البابا لاوُن الرابع عشر: البشارة ليست اجتياحًا بل نعمة
في أجواء مهيبة ملؤها الرجاء والوحدة، ترأس قداسة البابا لاوُن الرابع عشر مساء السبت عشية صلاة بمناسبة عيد العنصرة في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان، شارك فيها آلاف المؤمنين من مختلف أرجاء العالم. وقد تخللت هذا اللقاء الليتورجي المميز رتبة تجديد وعود المعمودية وصلاة لاستدعاء الروح القدس، في لحظة صلاة جماعية حملت معها نَفَسَ العنصرة وروح التجدّد. وألقى الأب الأقدس خلال العشية عظة مؤثرة سلط فيها الضوء على عمل الروح القدس الخفي والفعّال في حياة الكنيسة والمؤمنين، وأشار إلى أن استدعاء هذا الروح يعني الانفتاح على ملكوت الله، وعلى الحياة المسيحية كمسيرة جماعية تقودها المحبة والنعمة لا القوة أو الاستراتيجيات البشرية.
قال البابا لاوُن الرابع عشر إنّ الرّوح الخالق الذي دعوناه في النشيد – Veni Creator Spiritus – هو نفسه الرّوح الذي حلّ على يسوع، الرائد الصامت لرسالته: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ". وحين نطلب منه أن يزور عقولنا، ويكثّر الألسنة، ويُلهب الحواسّ، ويُفيض المحبّة، ويقوّي الأجساد، ويمنح السلام، فإنّنا نفتح ذواتنا لملكوت الله. وهذا هو الارتداد بحسب الإنجيل: أن نوجّه أنظارنا نحو الملكوت الذي أصبح قريبًا. في يسوع نرى، ومن يسوع نسمع، أنّ كلّ شيء يتحوّل، لأنّ الله يملك، لأنّ الله قريب. في عشيّة الصلاة هذه بمناسبة عيد العنصرة، نحن نشارك بعمق في قرب الله، وروحه الذي يوحّد قصصنا الشخصية بقصة يسوع. نحن نشارك، في الأمور الجديدة التي يصنعها الله، لكي تتحقّق مشيئته التي هي مشيئة حياة وتنتصر على إرادات الموت.
تابع الأب الأقدس يقول "مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ". هنا نشتمّ عبير الميرون الذي مُسِحت به جباهنا أيضًا. إنَّ المعموديّة والتثبيت، أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، قد وحّدانا برسالة يسوع المُحوِّلة، وبملكوت الله. وكما أنَّ الحبّ يجعل رائحة الشخص الذي نحبّه مألوفة لدينا، هكذا نتعرّف هذه الليلة على رائحة المسيح في بعضنا البعض. إنّه سرّ يدهشنا ويجعلنا نفكِّر. في العنصرة، امتلأت مريم والرّسل والتلميذات والتلاميذ الذين كانوا معهم بروح الوحدة، الذي جذَّر اختلافاتهم إلى الأبد في الربّ الواحد يسوع المسيح. لم تكن هناك رسالات كثيرة، بل رسالة واحدة. لم يكونوا منغلقين ومتخاصمين، بل منفتحين ومُنيرين. وهذه الساحة، ساحة القديس بطرس، التي تشبه عناقًا مفتوحًا ومضيافًا، تعبّر بأبهى صورة عن شركة الكنيسة، التي اختبرها كلّ واحد منكم في تنوّع الخبرات الجماعيّة والروحيّة، والتي تمثِّل العديد منها ثمار المجمع الفاتيكاني الثاني.
أضاف الحبر الأعظم يقول في ليلة انتخابي، إذ نظرتُ بامتنان وتأثّر إلى شعب الله المحتشد هنا، تردّدت في ذهني كلمة "السينودسيّة" – تلك الكلمة التي تعبّر عن الطريقة التي بها يشكّل الروح القدس الكنيسة. في هذه الكلمة يتردّد صدى كلمة "syn" – معًا – الذي يشكّل سرّ حياة الله. فالله ليس عزلة، إنّما هو "معًا" في ذاته: الآب والابن والرّوح القدس. وهو أيضًا الله معنا. وفي الوقت عينه، تذكّرنا السينودسيّة بـالدرب "odos"، لأنّه حيثما يكون الرّوح القدس، يكون هناك حركة، ومسيرة. نحن شعب يسير. وهذا الوعي لا يبعدنا عن العالم، بل يجعلنا نغوص في قلب الإنسانيّة، مثل الخمير في العجين فيخمره كلّه. وسنة النعمة التي يعبّر عنها اليوبيل، تحمل في طيّاتها هذا الخمير. ففي عالم ممزّق وبدون سلام، يربّينا الرّوح القدس في الواقع على أن نسير معًا. عندئذٍ ستستريح الأرض، وتُحقّق العدالة، ويفرح الفقراء، ويعود السلام، لأننا لم نعد نتحرّك كحيوانات مفترسة، وإنما كحجّاج. لا كلٌّ في طريقه، وإنما بتناغم وانسجام في خطواتنا. لا باستهلاك العالم بنهم، وإنما بتعزيزه وحمايته، كما تعلّمنا الرسالة العامّة "كُن مُسبَّحًا".
تابع الأب الأقدس يقول أيّها الأعزاء، لقد خلق الله العالم لكي نكون معًا، و"السينودسيّة" هي الاسم الكنسي لهذا الوعي. إنّها الدرب الذي يطلب من كلّ واحد أن يعترف بما عليه من واجب، وما له من موهبة، شاعرًا بأنّه جزء من كلّ، لا تزهر خارجه أيّة موهبة مهما كانت أصيلة. انظروا: إنَّ الخليقة كلّها لا توجد إلاّ بصيغة "أن نكون معًا"، وهي صيغة محفوفة أحيانًا بالمخاطر، لكنها تبقى "بكوننا معًا". وما نسمّيه "تاريخًا" لا يتشكّل إلاّ من خلال اللقاء والعيش المشترك، الذي غالبًا ما يكون مليئًا بالصراعات، ولكنّه يبقى مع ذلك عيشًا مشتركًا. ونقيض هذا كلّه هو مميت، وهو للأسف ما نراه يوميًّا بأعيننا. فلتكن، إذًا، جماعاتكم وتجمّعاتكم ميادينًا للأخوّة والمشاركة، لا كمجرّد أماكن لقاء، بل كمراكز روحانيّة. إنّ روح يسوع يغيّر العالم لأنّه يغيّر القلوب. وهو يلهم في الواقع ذلك البعد التأمُّليّ إلى الحياة التي تنقض التمركز حول الذات، والتذمُّر، وروح النزاع، والتسلّط على الضمائر والموارد. الربّ هو الروح، وحيث يكون روح الربّ، تكون هناك الحريّة. لذا فالحياة الروحيّة الحقيقيّة تُلزم بالتنمية البشرية المتكاملة، وتحقِّق في ما بيننا كلمة يسوع. وحيث يتمُّ ذلك يكون هناك فرح؛ فرح ورجاء.
وختم البابا لاوُن الرابع عشر عظته بالقول أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، إنّ البشارة ليست اجتياحًا بشريًّا للعالم، بل هي نعمة لا متناهية تتدفّق من حياة حوّلها ملكوت الله. إنّه درب التطويبات، درب نسيره معًا، بين "ما قد تمّ" و"ما لم يتمّ بعد"، جياع وعطاش إلى البرّ، فقراء بالروح، رحماء، ودعاء، أنقياء القلوب وصنّاع سلام. ولكي نتبع يسوع على هذا الدرب الذي اختاره، لسنا بحاجة إلى أنصار أقوياء، ولا إلى مساومات دنيوية، ولا إلى استراتيجيات عاطفية. لأن البشارة هي عمل الله، وإنْ مرّت أحيانًا من خلالنا، فذلك من أجل الروابط التي تجعلها ممكنة. فارتبطوا إذًا ارتباطًا عميقًا بكلّ كنيسة محليّة وجماعة راعويّة تثمرون وتغذّون فيها مواهبكم. حول أساقفتكم، وبالتعاون مع سائر أعضاء جسد المسيح، سنتحرّك حينئذ في انسجام وتناغم. عندها، لن تبدو التحديات التي تواجه البشرية مخيفة، وسيكون المستقبل أقلّ عتمة، والتّمييز أقلّ صعوبة... إنْ نحن أطعنا الروح القدس معًا! ولتشفع بنا مريم، سلطانة الرسل وأمّ الكنيسة.